رواية "حكاية صابر"- نداء أسير، رؤية للمستقبل، وأمل التحرير

المؤلف: د. سليمان صالح11.18.2025
رواية "حكاية صابر"- نداء أسير، رؤية للمستقبل، وأمل التحرير

إن فهم أبعاد روايات الأسرى يتجاوز حدود اعتبارها مجرد أعمال أدبية، فهي تحمل في طياتها رسائل عميقة من وراء القضبان، تنقل لنا شهادات حية، وأحلامًا دفينة، وتحليلات سياسية ثاقبة، وتنبؤات مستقبلية من عيون عاشت التجربة.

بطل روايتنا اليوم، الأسير المقدسي محمود عيسى، يقبع في غياهب السجون منذ ما يناهز خمسة وثلاثين عامًا، قضى منها اثني عشر عامًا في العزل الانفرادي القاسي تحت الأرض. ورغم أنه لم يشهد بأم عينيه الواقع الفلسطيني المعاصر بعد اتفاقية أوسلو، إلا أن أصداء الأحداث قد وصلت إليه، وسجل في روايته "حكاية صابر" رؤيته النقدية لهذه المرحلة المفصلية التي مرت بها القضية الفلسطينية، معتبرًا إياها "سنوات عجاف"، تاركًا نهاية عمله مفتوحة ليؤكد أننا لم نصل بعد إلى النهاية المنشودة. فهل نحن اليوم، وبعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أقرب إلى تحقيق تلك النهاية؟ سؤال يطرح نفسه بإلحاح.

نستعرض اليوم قصة الأسير المقدسي محمود عيسى، القابع في زنزانته الموحشة منذ عام 1993، ورائعته الأدبية "حكاية صابر" التي خطها بعد سنوات من الأسر والمعاناة.

في عام 1998، اكتشفت سلطات الاحتلال أن محمود عيسى تمكن من تنظيم مجموعة عسكرية في القدس، وإصدار الأوامر لها من داخل أسواره السجن، وقد نفذت هذه المجموعة عملية قتل مستوطن، الأمر الذي أدى إلى إعادته مجددًا إلى العزل الانفرادي.

لكن قبل الخوض في تفاصيل "صابر" بطل الحكاية، يجب أن نلقي نظرة على "صابر" الكاتب، ذلك الصوت المكتوم الذي حمل رؤيته للحياة وآماله في المستقبل. فالأسير محمود عيسى كان يومًا ما محور الأحداث ومتصدرًا عناوين الأخبار، وشكل نشاطه محطة هامة في تأسيس حركة حماس، التي تقود النضال الفلسطيني اليوم. العمليات التي أشرف عليها أدت إلى خطوة غير مسبوقة من قبل إسرائيل، وهي إبعاد ما يقارب 415 من القيادات الإسلامية الفلسطينية إلى مرج الزهور في جنوب لبنان، حيث عاشوا لسنوات دون مأوى يحميهم من قسوة الظروف الجوية.

كان محمود عيسى شخصية مؤثرة منذ بداياته، فقد كان من الركائز الأساسية في تأسيس الجناح العسكري لحركة حماس، وموقعه كابن للقدس وساكنها جعله شخصية حساسة ومؤثرة. في بداية التسعينيات من القرن الماضي، قام بتأسيس ما أسماه "الوحدة 101" في كتائب القسام، والتي وضعت نصب أعينها هدفًا محددًا وهو تحرير الأسرى من خلال أسر جنود صهاينة.

في ديسمبر/كانون الأول 1992، تمكن عيسى ووحدته من أسر جندي صهيوني يُدعى نسيم توليدانو، واشترطوا لإطلاق سراحه أن تفرج إسرائيل عن الشيخ أحمد ياسين من سجونها، لكن سلطات الاحتلال رفضت هذا المطلب، مما أدى إلى قتل الجندي الأسير في عملية اعتبرتها إسرائيل الأخطر في تاريخها.

نتيجة لهذه العملية، شنت إسرائيل حملة شرسة ضد حركتي حماس والجهاد، واعتقلت الآلاف من الفلسطينيين، وقامت بترحيل 415 مجاهدًا إلى مرج الزهور في جنوب لبنان.

بعد ستة أشهر من ذلك التاريخ، تم اعتقال محمود عيسى في منتصف عام 1993، وتعرض لتعذيب وحشي ومحاكمة قاسية انتهت بالحكم عليه بالسجن المؤبد ثلاث مرات إضافة إلى 49 عامًا. وبسبب تصنيفه كواحد من أخطر الأسرى، وضعته سلطات الاحتلال في زنزانة عزل انفرادي تحت الأرض لفترات متقطعة بلغ مجموعها حوالي 12 عامًا. استغرق الأمر نحو 5 سنوات قبل أن يسمح بأول زيارة عائلية له. في فترات أخرى من سجنه، تشارك الغرفة مع أسير آخر يعتبر "خطرًا"، وهو الشيخ جمال أبو الهيجا، الذي قاد في عام 2002 معركة بطولية للدفاع عن مخيم جنين في وجه الاحتلال الإسرائيلي، ولم يكن يسمح لأي من الرجلين برؤية أي شخص آخر.

والحقيقة أن محمود عيسى كان شخصية مؤثرة وخطيرة حتى من داخل السجن، فعندما خرج من العزل، حفر مع زملائه نفقًا للهروب من السجن، لكن الاحتلال اكتشف الأمر قبل تنفيذ العملية، فأعيد إلى الحبس الانفرادي وحكم عليه بست سنوات إضافية.

وفي عام 1998، اكتشفت سلطات الاحتلال أنه تمكن من تشكيل مجموعة عسكرية في القدس، وإصدار الأوامر لها من داخل السجن، وقد نفذت هذه المجموعة عملية قتل مستوطن، الأمر الذي أدى إلى إعادته مجددًا إلى العزل. وعندما انقطعت عن هذا الأسير سبل الجهاد باليد، لجأ إلى القلم، فألف عدة كتب تتنوع بين الرواية والتنظير للحركة الإسلامية المقاومة، ومن أهمها كتابه "المقاومة بين النظرية والتطبيق".

لهذا كله، كان من الطبيعي أن ترفض سلطات الاحتلال إدراجه في قائمة إطلاق السراح في صفقة شاليط، لكن إصرار حركة حماس اليوم على إتمام صفقة "الكل مقابل الكل" يحيي الأمل في إطلاق سراحه مع غيره من الأبطال المنسيين.

حكاية صابر!

ماذا إذن عن حكاية صابر؟

في هذه الرواية، لن يجد القارئ صعوبة في فهم الرموز والدلالات، فصابر، الشاب الفقير اليتيم الذي ولد في يوم نكسة عام 1967، يمثل رمزًا للشعب الفلسطيني. وبرّه بوالدته على الرغم من فقره يرمز إلى الوفاء للأرض والوطن والقضية. أما الأم "فلسطين"، فرغم حبها لابنها، فإنها تقدمه للجهاد، وتعلمه أن "الشهادة" ستكون فوزًا يحققه إن لم يتمكن من تحقيق النصر على الأرض، فالشهيد يرث أرض الجنان.

التفاصيل التي ترويها القصة تشبه إلى حد كبير يوميات الواقع الفلسطيني. يطرد الاحتلال صابر من بيته وأرضه، ليصبح لاجئًا في مخيم، حيث تغلق أمامه أبواب الحياة والرزق، ما لم يفعل شيئًا للتخلص من المحتل الغاصب. لكن الأحداث تسجل الحدث التاريخي الذي كان جديدًا في ذلك الوقت، فمن أعماق اليأس والاستسلام للهزيمة، ظهرت داخل الأراضي الفلسطينية مجموعات إسلامية شابة، قادت انتفاضة عام 1987، شارك فيها صابر وكثير من شباب جيله. وعندما اعتقلوه، تحدّى الجندي ورفض الانصياع للأمر بإغلاق فمه، بل وقاوم الجندي وتغلب عليه وضربه عندما حاول الاعتداء عليه.

يتذكر صابر وهو يعاني من آلام الاعتداء، المبادئ التي غرستها فيه والدته، والشجاعة والمقاومة التي زرعتها في قلبه، فيشعر بالسعادة، فقد علمته منذ صغره أنه ابن شهيد، وأنه يجب أن يسير على درب أبيه، وأن المخيم ليس بيته الحقيقي، فبيته هناك "تحت الاحتلال"، تحيطه أشجار التين والزيتون واللوز والرمان والليمون.

مع اندلاع الانتفاضة، تتبلور أكثر فأكثر أنشطة هذه المجموعات الإسلامية الشابة، فتتأسس حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، ويجد صابر في أنشطتها ذاته وأحلامه. وعندما تنشط جماعة "أمناء جبل الهيكل" في محاولات للسيطرة على المسجد الأقصى واحتلاله، يجد نفسه هناك مقاومًا، وتختلط دماؤه بدماء شيخ على سلالم المسجد، في رمز واضح لاستمرار النضال.

يعتقل "صابر" ويعذب عدة مرات على يد الاحتلال الإسرائيلي، لكن عزيمته لا تلين. وعندما تنشأ السلطة الفلسطينية في أعقاب اتفاق أوسلو الموقع في ديسمبر/كانون الأول 1993 (بعد اعتقال محمود عيسى بستة أشهر)، يكتشف صابر أن الوضع لم يتغير كثيرًا، وأنه لا يزال ينتظر مداهمات قوات الاحتلال ويعذب في السجون، ويسمي تلك السنوات السبع التي عاشها (حتى وقت كتابة الرواية) "السبع العجاف"، ويقرر أن يدير ظهره لهذه التجربة، مواصلًا طريق المقاومة الذي يراه السبيل الوحيد المؤدي إلى النصر.

تنتهي الرواية بنهاية مفتوحة، وكأن الكاتب يقول "الأيام بيننا"، و"كل يعمل على شاكلته"، كما يكشف المشهد الأخير أن الشاب ورفاقه لا يلتفتون إلى أي بريق زائف عن المسار الأصيل.

في ذلك المشهد يقول الكاتب:

عاد صابر ورفاقه إلى عرينهم، وواصلوا مسيرة الجهاد.

مرت بهم الأيام، وتقلبت عليهم الأحداث، وبقي "الهدهد" يغدو إليهم ويروح..

وجاءهم يومًا في "صرة" مبشرًا:

فازت حماس، اقترب النصر، هلت البشائر.

ثم ما لبث أن عاد قاطب الجبين، أطرق هنيهة، ثم تنهد وهز رأسه وقال:

أتظن "الغربيين" يتركون هذا الركب سائرًا؟ لا يا أخي، ستجد قبل ابن سلول ألف أبي لهب، يضعون الشوك ويقطعون الأواصر

إنه حقًا لنصر، لكن وحتى يكتمل، يجب أن يتبعه ألف نصر، وألف حقيقة، وألف فداء.

عندها فقط تهلّ البشائر بأنوارها، وزينتها وبهائها.

وعند ذلك، تعود القدس إلينا طاهرة مطهرة، تعود فلسطين، كل فلسطين إلينا. وعند ذلك ندحر الطامعين، أعداء الله والإنسان..

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة